سورة العنكبوت - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)} [العنكبوت: 29/ 1- 7].
مطلع السورة بالحروف الأبجدية المقطعة لتنبيه المخاطب لما يأتي بعدها، وإظهار إعجاز القرآن المتكون من هذه الحروف، ومع ذلك لا يستطيع العرب الإتيان بمثله، تحدّيا لهم.
والمعنى: أظن الناس بعد إيجادهم أنهم متروكون بغير اختبار بمجرد قولهم: آمنّا بالله ورسله، وهم لا يمتحنون بالتكاليف الشرعية كالجهاد في سبيل الله، والهجرة من مكة إلى المدينة، وأداء الفرائض البدنية كالصلاة، والمالية كالزكاة، والتعرّض للمصائب في الأنفس والأموال، ومجاهدة أهواء النفس والشيطان، بالامتناع عن المعاصي والموبقات؟! وهذا استفهام إنكاري، معناه أن الله تعالى لابد من أن يبتلي عباده المؤمنين، للتحقق من مدى صدق إيمانهم وقوة يقينهم. قال مجاهد وغيره: نزلت هذه الآية مؤنسة ومعلمة أن هذه السيرة هي سيرة الله تبارك وتعالى في عباده، اختبارا للمؤمنين وقتئذ- وفي كل وقت- ليعلم الله الصادق ويرى ثواب الله تعالى له، ويعلم الكاذب ويرى عقابه إياه. وهذه الآية وإن نزلت لهذا السبب، فهي بمعناها باقية في أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم، موجود حكمها بقية الدهر.
وسببها الخاص إيناس المؤمنين الأولين الذين تعرّضوا لإيذاء كفار قريش وتعذيبهم على الإسلام، فكانوا يتضايقون بذلك. لكنهم في هذا مطالبون بالصبر كمن أوذي ممن قبلهم.
وهذا ما أبانته الآية الآتية، فتالله لقد امتحنا واختبرنا المؤمنين السابقين، بل والأنبياء المتقدمين بألوان الأذى والشدة والضّرر، ليعلم الله علم ظهور وانكشاف، بأن يظهر الله علمه فيهم، ويوجد ما علمه أزلا، لا علما يسبقه جهل، لأن الله عالم بكل شيء في الماضي والحاضر والمستقبل، ليعلم الذين وجد منهم الصدق، والقائمين على الكذب. والتعبير بقوله: {الَّذِينَ صَدَقُوا} في حقّ المؤمنين، وبقوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ} في حقّ الكافرين، للدلالة في هؤلاء الكفرة على الثبات والدوام. بل أظن الذين يقترفون المعاصي أن يسبقوا عقاب الله تعالى ثم يفوتونه، ويعجزونه؟! بئس الحكم حكمهم، بأن يعصوا ويخالفوا أمر الله، ثم يفلتون من العقاب، إنه حكم خطأ، يناقض مقتضى العقل والشرع والعدل.
فمن كان قد آمن، وتوقع الثواب والخير في الآخرة، وعمل الصالحات، فإن الله سيحقق له رجاءه، ويوفيه كاملا غير منقوص، لأن الأجل الذي حدده الله للبعث والمعاد آت لا ريب فيه، والله سميع الدعاء وأقوال العباد، عليم بصير بكل الكائنات، يعلم بكل ما قدموا، ويجازي كل واحد بما عمل، فمن كان على الحق فليوقن بأنه آت، وليزدد بصيرة.
ومن جاهد نفسه وهواه، فقام بالأوامر، واجتنب النواهي، فإن ثمرة جهاده عائدة له، ونفع عمله راجع لنفسه لا لغيره. وهذا إعلام بأن كل أحد مجازي بفعله الحسن، وأن نفع الطاعة للإنسان ذاته لا لله تعالى، لأن الله غني عن جميع العالمين من إنس وجنّ، لا تنفعه طاعة، ولا تضّره معصية.
ثم أخبر الله تعالى عن ثواب المؤمنين المجاهدين الذين هم في أعلى رتبة، وهو أحسن الجزاء: يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم بأحسن ما عملوا، فيقبل القليل من الحسنات، ويثيب على الحسنة بعشرة أمثالها. والسيئة: الكفر وما اشتمل عليه، وكذلك معاصي المؤمنين مع الأعمال الصالحة واجتناب الكبائر. وقوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ} معناه على حذف مضاف تقديره: ثواب أحسن الذي كانوا يعملون. ويدخل في ذلك ثواب الحسن، بإخراج كلمة (أحسن) عن بابها من التفضيل، فليس المراد بها هنا كونها أفعل تفضيل، وإنما المراد أنهم يجزون ثواب الأحسن والحسن. فيكون الجزاء على حسن الأعمال، وأن الحسنة تمحو السيئة.
وصايا أهل الإيمان:
في مجال الاختبار والامتحان يوصي الله تعالى المؤمنين بالإحسان إلى الوالدين، ويبشّرهم بالجنة إن هم أطاعوا، وصبروا على الأذى والفتنة، وفي الامتحان يتبين للناس مدى صمود المؤمنين، وزعزعة قلوب المنافقين. ويظهر من بيان الله تعالى إحباط عروض الكافرين بتحمّل خطايا المؤمنين إن اتّبعوا سبيلهم في دينهم المعوج، وإنذارهم بتحمّل المسؤولية الثقيلة عن أعمالهم الشنيعة وسوء اعتقاداتهم الباطلة، وافتراءاتهم المضلّلة، قال الله تعالى موضحا هذه الوصايا:


{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)} [العنكبوت: 29/ 8- 13].
هذه طائفة من وصايا أهل الإيمان، تشتمل على نواح ثلاث:
الأولى- الإحسان إلى الوالدين: فلقد أمرنا الإنسان بالإحسان إلى والديه، ببرهما قولا وعملا، لأنهما سبب وجوده، إلا في محاولة الحمل على الشّرك، فإن جاهداك على أن تشرك أيها الولد بالله ما لا علم لك به، ولا وجود بالفعل، فلا تطعهما في ذلك، لأنه كما صحّ في الحديث الذي أخرجه أحمد والحاكم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
وذلك لأن سبب المخالفة في المعصية رجوعكم جميعا إلى الله يوم القيامة، فيخبركم ربّكم بما عملتم، ويجازيكم على أعمالكم، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. وهذا وعيد في طاعة الوالدين، وهو في معنى الكفر.
نزلت هذه الآية كما روي عن قتادة في سعد بن أبي وقاص، حين هاجر، فحلفت أمه ألا تستظلّ بظلّ حتى يرجع إليها، ويكفر بمحمد- صلّى اللّه عليه وسلم- فلجّ هو في هجرته، ونزلت الآية.
ثم كرّر الله تعالى التمثيل أو الشبيه بحالة المؤمنين ليحرّك النفوس إلى نيل المراتب العالية، فالذين آمنوا وعملوا صالح الأعمال، لنجعلنهم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته ونحشرنهم مع أرفع الصالحين، وثمرة الصلاح تتحقق بعدئذ، وجزاؤه الجنة.
وقوله سبحانه: {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} أي في زمرة الأنبياء، على سبيل المبالغة.
الناحية الثانية- افتضاح شأن المنافقين: فمن الناس فريق، هم قوم من المكذبين المنافقين، الذين يتظاهرون بألسنتهم بالإيمان بالله، والتصديق بوجوده، ووحدانيته، دون أن يثبت الإيمان في قلوبهم، بدليل أنهم إذا أصيبوا بأذى المشركين من أجل إيمانهم، اعتقدوا بأن هذا من نقمة الله عليهم، فارتدوا عن الإسلام، وصرفهم العذاب عن الإيمان، وإذا تحقق نصر قريب من الله للمؤمنين بالفتح والغلبة والغنيمة قالوا: إنا كنا معكم ردءا وإخوانا لكم في الدين، أو ليس الله بأعلم بما في قلوب العالمين، وما تنطوي عليه من النفاق؟! وليختبرن الله الناس في السّر والعلن، ليتميز المؤمنون، ويعرف المنافقون، لأن المحنة محكّ الإيمان، فإن صبر المؤمن كان صادقا، وإن جزع وتبرم، كان كاذبا منافقا.
نزلت آية: {وَمِنَ النَّاسِ} في المنافقين الذين كفروا لما أوذوا، قال مجاهد: نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا.
الناحية الثالثة- محاولات الكافرين فتنة المسلمين عن دينهم: قال كفار قريش لمن آمن منهم واتّبع هدى القرآن: ارجعوا عن دينكم إلى ديننا، واتّبعوا طريقنا ومنهجنا في التدين، ونحن نتحمّل عنكم آثامكم إن كانت، ووجد حساب عليها، والواقع أنهم لا يتحمّلون شيئا من ذنوبهم، وإنهم لكاذبون فيما قالوا، لأنه لن يتحمّل أحد وزر أحد في ذلك العالم، وعاقبة هذا القول: أن دعاة الكفر والإضلال يتحمّلون يوم القيامة أوزار أنفسهم، وأوزار غيرهم الذين أضلّوهم من الناس، وسوف يسألون سؤال توبيخ وتقريع عما كانوا يكذبون على أنفسهم وعلى غيرهم، وعلى ما يختلقون من الافتراء والبهتان في الدنيا. وقوله تعالى: {وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ} يريد: ما يلحقهم من أعوانهم وأتباعهم، لتسببهم في إضلالهم.
قال مجاهد: إن الآية نزلت في كفار قريش الذين قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فاتّبعونا، فإن كان عليكم إثم فعلينا. روي أن قائل هذه المقالة الوليد ابن المغيرة. وقيل: بل كانت شائعة من كفار قريش.
إن هذه الوصايا واردة بصفة التحذير من عقوق الوالدين فيما هو حقّ وبرّ، وخير وطاعة، والتحذير من أعمال المنافقين فاقدي الإيمان الثابت، حينما أوذوا كفروا، ومن محاولات الكفار ثني المؤمنين عن إيمانهم وردهم إلى دائرة الشّرك والوثنية.
رسالة نوح عليه السّلام:
تكرّر إيراد قصة نوح عليه السّلام مع قومه في مناسبات مختلفة، وسور قرآنية متعددة، بعضها مطوّل مفصّل، وبعضها كما هنا موجز مختصر، وأتبعت هذه القصة في سورة العنكبوت بقصص أنبياء آخرين: وهم إبراهيم، ولوط، وهود، وشعيب، وصالح، لبيان عاقبة المكذبين رسلهم، وإيناس النّبي محمد صلّى اللّه عليه وسلم فيما يلقاه من تعنّت قومه، وفتنتهم المؤمنين وغير ذلك، وتثبيته على أذى الكفرة، وفي ذلك عبرة ووعيد لكفار قريش بتشبيه أمرهم بأمر قوم نوح، ولتأكيد ما جاء في مطلع السورة من جعل الابتلاء سنة الحياة.
وهذه آيات توجز بيان مهمة نوح عليه السّلام أطول الأنبياء عمرا، وأول رسول للبشرية، وأبي البشر الثاني بعد آدم عليه السّلام، قال الله تعالى:


{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)} [العنكبوت: 29/ 14- 15].
إن إيراد قصص الأنبياء السابقين على هذا النحو من التأكيد والتشديد، ذو مغزى عميق ودلالة واضحة، فمغزاه العبرة والعظة، ودلالته الإنذار والتحذير لكفار قريش وأمثالهم، حين كذبوا رسولهم محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بأنهم سيتعرّضون لعقاب مماثل لمن تقدّمهم من الأقوام الغابرة الذين كذّبوا رسلهم، فجاءهم عذاب الاستئصال. وتظهر صورة هذا التأكيد في العرض والبيان بقسم من الله تعالى على ما جاء في قصّة كل نبي.
وهنا يقول الله تعالى ما معناه: وتالله لقد أرسلنا نوحا عليه السّلام إلى قومه الكافرين العصاة، عبدة الأصنام، فبقي فيهم يدعوهم إلى توحيد الله ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم يؤمن بدعوته إلا قليل من الناس كما قال تعالى: {وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 11/ 40]، وكذبوه وآذوه، وأفحشوا له القول، فصبر نوح عليه السّلام على أذاهم، ومضى زمان طويل، وهو يدعوهم إلى أن يتركوا عبادة الأصنام، ويؤمنوا بالله الواحد الأحد، وبيوم القيامة والحساب، فلم يفلح، ولم يستجيبوا لدعوته، وأمعنوا في الإعراض والاستكبار، كما جاء في آية أخرى: {قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً} [نوح: 71/ 21].
ولما يئس نوح عليه السّلام من إيمان قومه، دعا عليهم بوحي من الله تعالى، فقال: {وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26)} [نوح: 71/ 26]. فألهمه الله صنع سفينة ليركبها مع المؤمنين، وترك الكفار في العذاب.
وجاء الأمر الإلهي بالإغراق بعد هذه المدة الطويلة من الصبر والإنذار، فأخذهم الطوفان، وهم ظالمون أنفسهم بالكفر، وأنجى الله نوحا ومن آمن معه في الفلك المشحون، التي مخرت عباب البحر، حتى استقرّت على جبل الجودي، وغرق الكفار جميعا بطوفان الماء، وجعل الله سفينة نوح آية وعبرة للعالمين، كما جاء في آية أخرى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)} [الحاقّة: 69/ 11- 12].
وضمير الفعل: {وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ} يعود على السفينة المذكورة. وأما الغرق ففي رأي فرقة مقصور على قوم نوح، وقال الجمهور: إنما غرقت المعمورة كلها، أي العالم القديم، والرأي الثاني هو الراجح بسبب إعراض الناس كلهم عنه، أي عن دعوة نوح. فليتّعظ كفار قريش وأمثالهم بهذه العقوبة الشديدة التي يمكن أن تصيبهم، إذا ظلّوا رافضين لدعوة النّبي محمد صلّى اللّه عليه وسلم، مكذّبين له، مفترين على دعوته وعلى القرآن وعلى المؤمنين، فإن العاقل من اتّعظ بغيره.
إن قصة السفينة عبرة وعلامة على قدرة الله تعالى في شدة بطشه، وعقابه عتاة أهل الضلال والتمرد والعصيان، كما أنها نعمة خارقة، في وقت لم يعرف الناس ركوب البحر ولا وجود السّفن عابرة المياه، فقد نجى الله تعالى نوحا ومن آمن معه، حفاظا على النوع البشري من الانقراض العددي والنوعي، حيث تناسل الناس من ذرّية هؤلاء المؤمنين، وبدأت حياة جديدة تظهر فيها مآس وألوان أخرى من الفسوق والعصيان، والكفر والطغيان، فتجدد العقاب في أمم أخرى بعد إرسال رسل آخرين لهم، دعوا بدعوة نوح عليه السّلام إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، وبيوم القيامة والحشر والحساب، ويظل الصراع قائما بين الإيمان والكفر إلى أن يشاء الله تعالى تبديل الأحوال.
دعوة إبراهيم الخليل عليه السّلام:
من أعظم قصص القرآن الكريم: قصة نوح وإبراهيم عليهما السّلام، أما نوح عليه السّلام فهو أبو البشر الثاني الذي دعا إلى عبادة الله وحده، فكذّبه قومه، فأغرقهم الله بالطوفان، وأما إبراهيم عليه السّلام: فهو أبو الأنبياء، وإمام الحنفاء، الذي دعا أيضا كنوح إلى توحيد الله عزّ وجلّ، وهجر عبادة الأصنام، وشكر الله المنعم، وبيان قدرته على بدء الخلق وإعادته، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وهذا ما أبانته الآيات الآتية في قول الله سبحانه:

1 | 2 | 3 | 4 | 5